
غسان الرحباني لموقعنا: “شياطين الأرض تسعى إلى تفكيك الناس”
مقابلة خاصة مع الموسيقي غسان الرحباني
في وقت أصبحت الساحة الفنية المزدحمة بالفراغ وفارغة رغم الازدحام، رسم غسان الرحباني بأغانيه لوحة تعكس واقعنا الذي لا يشبه أي واقع آخر. نجد أنفسنا وقد اعتنقنا كلماته ورددناها كلما شعرنا بأننا عاجزون عن التعبير بما يخالجنا من خذلان. فنجد في هذه الاغاني ملاذاً للاستهزاء من الواقع المأساوي، وكذلك وسيلة للتعبير عن غضبنا المتجاهل للظلم. نحتاج إلى الوصف الراقي في زمن تفشّي الابتذال. إذ أصبحت حرية التعبير تشبه بشكل كبير الفلتان الذي نعاني منه. دخل غسان الرحباني بقوة إلى بيوتنا، وأصبح جزءاً من حياتنا وجلساتنا ومحادثاتنا من دون أن يدري. واللافت في هذا الأمر، هو أن جميع أغانيه لا تزال تحمل القيمة المعنوية نفسها حتى يومنا هذا.
غسان الرحباني نجم من نجوم الـ “هيفي ميتال” في لبنان والعالم العربي، فهو ليس بفنان عادي، هو كاتب، ملحن، موسيقي، مسرحي وقائد أوركسترا. اشتهر بأغنياته الساخرة والناقدة للواقع اللبناني. قدم تجارب موسيقية مبتكرة ومميزة حيث قام بابتكار أنماط موسيقية جديدة، وقدم مزيجاً فريداً من الموسيقى الأجنبية والتأثيرات الشرقية. إستخدم تنوع الآلات الموسيقية والتوزيع الموسيقي الفريد لدمج عناصر الموسيقى الغربية مع اللحن والإيقاع الشرقي. قدم مقطوعات موسيقية تعكس تأثيرات متنوعة ومتعددة الثقافات، مما جعله يترك بصمة فنية مميزة ومحبوبة في عالم الموسيقى العربية.
“لم تعد أحلامي كثيرة”
تحدث غسان الرحباني في حديث خاص لموقع “LEBANESE DAILY” حول الأحلام التي كبرت معه وتلك التي اختفت، إنه مع التقدم في العمر لم يعد يحلم كثيراً وبات منطقياً في الأحلام. “ليس من الضرورة على الإنسان أن يحلم كثيراً، فبعض الأحلام قد تسبب الحزن إذا لم يتم تحقيقها”. أضاف: “إن الحلم ليس ضرورياً على الإطلاق، إنما الأمل هو الأساس وفقدان الأمل يؤدي بالشخص إلى الحزن والاكتئاب، ولكن كلما كانت الأحلام عملية، كلما كان الحزن أخف”.
وتابع: “لم تعد أحلامي كثيرة، كل ما يهمني اليوم هو بناتي الثلاث وكيفية مساعدتهن على مواجهة الحياة بشكل صحيح”.
عاد غسان في ذاكرته إلى بداية مسيرته، حيث يتحدث عن الواقع الصعب لحياته وعن حلمه في أن يصبح شهيراً في هوليوود في عمر الخامسة والعشرين، وإلا سيتوقف عن الفن. يتذكر كيف أثرت الحرب بشكل كبير على المشاريع والإصدارات. بدأ مسيرته الموسيقية في العام 1979، حيث قام بتأليف وتلحين وتسجيل أول ألبوم خاص به في الاستوديو الخاص داخل منزل العائلة. في ذلك الوقت، علّم نفسَه الهندسة الصوتية وكيفية تسجيل الأغاني في الخفية عن أبيه، أثناء غيابه عن المنزل. وعندما كان في الخامسة عشرة من عمره، أسس فرقته الخاصة GRG التي كانت تغنّي باللغة الإنكليزية.
الى ذلك، أشار الرحباني إلى أن البلد لا يساعده، ويتم تأجيل العديد من المشاريع بسبب السياسة. على سبيل المثال، إذا قرر تقديم مسرحية أو عرضها في وقت ما وحدث شيء معين، فإنه يضطر الى تأجيلها. واعترف أنه فكر في الهجرة وحاول ذلك في العديد من المحافل، خصوصاً قبل الزواج، ولكنه واجه صعوبات كبيرة جداً في فرنسا ولندن وأميركا، وذلك ليس بسبب موسيقاه، ولكن بسبب جنسيته اللبنانية. توصل إلى قرار العودة إلى لبنان في مطلع التسعينيات والتركيز على نفسه. لم يعد يرغب في السفر أو فتح أبواب جديدة. أصبحت مبدأه العيش في لبنان براحة وأن يكون السفر إلى الخارج مجرّد تجربة سياحية. لذا، لم يعد ممكناً بأيّ شكل من الأشكال ترك لبنان، سواء بسبب جماله أو قبحه. اقتنع بالبقاء هنا، مهما حدث.
“لن أدفع المال حتى تُعرض أغنيتي”
وعن غيابه عن الضجيج الحاصل اليوم في أروقة الإذاعة والتلفزيون، تحدث غسان عن أن موسيقاه ومؤلفاته ناشطة ومتاحة على الـ YouTube ولم يتوقف عن الإصدارات الجديدة. ومع ذلك، فإن إنتقاده يتجه نحو المحطات التلفزيونية التي تغيرت وأصبح المال هو الأساس لعرض أي أغنية، سواء كانت جيدة أو “هابطة”. يشير الرحباني إلى أن أغنياته تختلف عما يُذاع اليوم، علماً أن الجميع بحاجة إليها للمساهمة في الحفاظ على لبنان، كما هو وكما نريده. فالهدف من أغنياته ليس الاستعراض والغناء في حفلات خاصة، بل انها تعتبر انتقاداً لما يحصل اليوم في كل المجالات. “أغنياتي يحتاجها الجميع لأنها تخاطب الوجدان، لذا ليس من الضروري أن أدفع عليها. لهذا السبب أفكر في تأسيس تلفزيون خاص حتى أتمكن من عرض أغنياتي عليه، ولأنني بتّ في سن لن أركض فيها خلف أحد لبث أعمالي”. وفي ما يخص المستوى الهابط في الوسط الفني حالياً، يشير الرحباني إلى أن هذا المستوى كان موجوداً منذ حقبة الإذاعة اللبنانية، حيث كانت هناك لجنة تقييم وتصنيف الأعمال الغنائية في ثلاث فئات “A” و”B” و”C”. الفئة الأولى كانت تُبث يومياً، الثانية كل يومين، أما الفئة الثالثة فكانت تُبث مرة واحدة في الأسبوع.
وأضاف قائلاً: “إن الزمن هو من غربل الأغاني الهابطة، وبقيت الأغاني الجميلة صامدة حتى بتنا نعتقد أن ذاك الزمن كان جميلاً. دائماً يوجد السيّىء والجيد، لكن الإعلام هو من يختار التركيز على أي فئة منهم. وفي ظل ارتفاع عدد الإذاعات والمحطات التلفزيونية، سنجد دوماً أن هناك من يدفع مقابل عرض أعماله. لكن المفارقة الصغيرة اليوم، هي مشاهدة العمل ومعرفة ما إذا كان يضرّ المجتمع أم لا قبل عرضه، ولو كان المقابل المادي للدفع مغرياً”. وتابع: “لنعتبر أن التلفزيون رفض عرض هذا العمل على سبيل المثال، لكن حالياً هناك منابر أخرى مثل اليوتيوب يتم عرض الحابل والنابل عليها. أنا أثق بأننا سنصل إلى يوم سيمنع فيه “اليوتيوب” من عرض الأعمال غير اللائقة مثل تلك التي تحتوي على كلام نابٍ وما شابه ذلك”.
وأشار الرحباني إلى أن الناس لا يزالون يفضلون الاستماع ومشاهدة الفن الراقي، والدليل على ذلك هو الحجوزات الكاملة التي تشهدها المهرجانات في الصيف من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مروراً بالبقاع، على الرغم من ارتفاع أسعار التذاكر أحياناً وعدم وجود “الأرجيلة”. “ثقافة الطبل” الموجودة على الساحة اليوم محصورة بعدد معين من الجمهور الذي يركض خلف المغني من مكان إلى آخر ليبدو وكأن جمهوره واسع وكبير.
” الموسيقى والسياسة”
وفي ما يتعلق بالجانب السياسي، علق الرحباني بأنه على الرغم من انه يفضل اليوم الصمت بسبب الإحباط والاستياء من الوضع السائد، لا يزال يواصل نقده للفساد في كل مكان، ويسعى إلى تحقيق اتحاد القادة الموارنة والمسيحيين حول العالم، بالإضافة إلى تعزيز الوحدة اللبنانية. وأضاف: “لست مع أي جهة ضد جهة أخرى، اذ استمعتي لأغنياتي تلمسين روح الثورة”. وقال: “انا عندي رسالة، وهي محاولة جمع القادة المسيحيين الموارنة، ما عندي ولا اي هدف تاني”. وتابع: “وقت اتحدو وعملو “أوعى خيك” كانت تدمع عينيّ كل ما شوفها عالتلفزيون لأنو هيدا هدفي وهيدا الي قلتو للحكيم بالـ 2005 إنو ما بقى بدنا نعيش حرب التحرير، نحنا اذا باقيين بلبنان باقيين لانو شفناكم عم تحكو مع بعض وقعدتو سوا”. وأردف: ” قال لي عون مرة: “أنتَ الوحيد الذي يفهم قريطم، الرابية والأرز”، أجبته: “نعم، لأن هدفي هو تقريب وجهات النظر وأعرف ماذا أريد”. هذا هو هدفي، هدفي “نروق لأن يلّي حولنا عينن علينا وما فيك تبرم ضهرك لحدا. في نهاية المطاف، الوحدة هي المفتاح للراحة والتقسيم ليس الحل”.
وأشار الى أنه ليس شخصاً عادياً، “لأنني قمت بغناء كل شيء قديم، فيما جعلت للموسيقى دوراً في توصيل الرسائل وإيصال الأهمية من خلال الخطابات. لنبدأ بموضوع لماذا الأديان تغني؟ لأن الغناء يُحفظ بشكل أفضل من الحديث، ولكن الموسيقى تقرّب الناس. على سبيل المثال، الأناشيد الثورية، مثل تلك التي كتبها هتلر، تحرّك الناس وتجعل الجيش الألماني متحمساً. وشدّد حتى في لبنان، “كان والدي كل ما كان ينزّل نشيد للكتائب او القوات… كانو ياخدو منطقة”، على سبيل المثال أغنية “غنتلي اليمامة” في العام 1976 . لهذه الأناشيد دور ليس عادياً، كونها تشعر المقاتل بالحماسة وتزيد من عنفوانه. فالنشيد مثل المخدر الذي يجعلك تشعر بالقوة، وهو سر من اسرار الانتصار. حتى في عز حرب التحرير، حين أصدر والدي أغنية عن “هزّ المسمار”، كان المدافعون بعد سماعها يستبسلون في الدفاع عن سوق الغرب بفعل الاندفاع”.
للأناشيد معنى خاص، لا سيما إذا تم تنفيذها بشكل صحيح. عندما قمت بإصدار نشيد في عام 2006 في الذكرى الأولى لخروج الحكيم من السجن بعنوان “الحرية باسم الإنسانية”، قمت بإشراك فتيات في النشيد، كونهن يجسدن المعاناة نفسها بمعنى آخر “هي” كما “هو”، فينقل أداؤهن الشرقي رسالة للمرأة في القوات بحيث لا تكون هذه الرسالة حكراً للرجال. وأهم مثال على ذلك، ستريدا جعجع ساهمت بشكل كبير في تسيير القوات اللبنانية في فترة سجن سمير بين عامي 1994 و2005، وكانت القوات محظورة آنذاك بعد أن تمّ حلها.السنوات الإحدى عشرة لم تكن سهلة على ستريدا.
كما تناول الرحباني في حديثه أهمية الموسيقى في السياسة، حيث أشار إلى أن الأناشيد الثورية القديمة خلال فترة الحروب العالمية كانت تلهم الجيوش بالقوة والحماسة للقتال. يعكس ذلك أيضاً تأثير الأناشيد الثورية التي كان والده الراحل الياس الرحباني يلحنها خلال الحرب اللبنانية. إن الأناشيد تحمل معاني خاصة إذا تمّ غناؤها بشكل صحيح وملهم.
“الأكاديمية الموسيقية”
في سؤال عن الأكاديمية الموسيقية التي تأسست، يشير الرحباني إلى أن قرار تأسيسها يعود إلى عام 2013، حيث قرر البقاء في لبنان إلى جانب عائلته. تم اتخاذ هذا القرار بعد توقف فرقة الـ “4 Cats” وقرار عدم الركض وراء أحد للتلحين أو التأليف. تمّ اعتبار الأكاديمية الحل الأنسب والأفضل لأسباب عدة، منها نشر الثقافة الموسيقية الراقية، والحفاظ على سمعة الياس الرحباني حيّة بين الناس، وإعداد الناس بثقافة موسيقية مؤثرة ونقية. يشدد الرحباني على أن هناك إقبالاً كبيراً على التسجيل في الأكاديمية وأن الناس يثقون بها وبه، وهو يعد بأن يبقى على محمل هذه الثقة. وفي ما يتعلق ببناته، يوضح الرحباني بأنهن لا يهتمّن بالشهرة، ولكن إذا قررن دخول عالم الفن، سيوجههن إليه، شرط أن يكون الفن راقياً ويتماشى مع مدرسة الرحباني. كما يعرب أيضاً عن أمنيته بأن تتسلم بناته الأكاديمية في المستقبل إذا رغبن في ذلك، لأنها تمثل المستقبل بالنسبة اليهن، وذلك لعدم الاعتماد على الرجل ولكي تبقى قراراتهن حرة.
“شياطين الأرض تسعى إلى تفكيك الناس “
في ما يتعلق برسالته للشباب، يعتبر الرحباني أن الإيمان هو شيء لا ينبغي أن يخجل منه احد. ويعبّر قائلاً: “لا تخافوا ولا تخجلوا من إيمانكم”، مشيراً إلى أنه من المسموح بالحديث عن الجندرة والأفعال الشيطانية، ولكن الإيمان لا يُسمح به. ويلاحظ أن المواضيع الشيطانية ليست “تريندي” كما يتم الترويج لها.
في ختام اللقاء، يشير الرحباني إلى أن العالم يتم التحكم به اليوم بواسطة شياطين الأرض الذين يسعون إلى تفكيك الناس بناءً على ميولهم الجندرية، وهذا أمر غير مقبول. كما يلاحظ أنه سيكون في مقدمة الصفوف في هذه الحرب تماماً كما هو في حرب مع الموسيقى الهابطة، وسيحافظ على رفع صوته في منطقته ومحيطه، حتى لا ينهار المجتمع ولا نصل إلى مرحلة خطرة، فالفوضى ليست حرية. ويصف الحضارة المقبلة بأنها مخيفة للغاية، معلناً أنه سيُطلق أغنية باللغة العربية في هذا السياق، وعنوانها “Other”.
مزيد من المقالات: حفيد السلطان العثماني لموقعنا: “تذكروا كلامي جيداً”