عن الطائفية واليسار….. وطائفية اليسار

بقلم هشام بو ناصيف، أستاذ جامعي، كاليفورنيا

قبل أشهر قليلة أغرق المدعو رشيد جنبلاط وسائل التواصل الاجتماعي بمطالعات مفرطة ببدائيتها، حتّى بالمعايير اللبنانية. ليس أقلّ ما دعا اليه هو “استرجاع دير القمر” أي، عمليّا، تهجيرها. وليس أقلّ ما ارتكبه هو التباهي المشين ب 1860، واستعادة المقولة الممجوجة عن الفلّاح الماروني العاق الذي تطاول على سيّده الدرزي، وسائر تخرّصات الرواية الجنبلاطيّة لتاريخ جبل لبنان. لم تكن المارونوفوبيا الدفينة الكامنة في خطاب السيّد جنبلاط لتثير القلق بذاتها، لولا أنّها استقبلت بسرعة بترحاب واضح في بيئته، بديل الاف التعليقات المؤيّدة التي صاحبت ظهوره المتكرّر. باختصار، بدا الخطاب مرعبا ان بدعوته الصريحة الى جولة جديدة من الاقتتال الاهلي في الجبل، أو بالحماسة الواضحة التي أثارها في الجمهور المعني به.

ماذا كان ردّ فعل نشامى الامميّة الرابعة في الجبل على خطاب السيّد جنبلاط؟ صمت القبور.هذه الامميّة نفسها تجتاح وسائل الاجتماعي اليوم اعتراضا على الخطاب الطائفي لماريو عون (المقيت مثل حزبه).طبعا، لم تكن ظاهرة رشيد جنبلاط المؤشر الوحيد في الجبل الذي يسترعي الانتباه خلال السنوات الاخيرة. للتذكير فقط: عندما تحدّت وليد جنبلاط عن الموارنة بصفتهم “جنس عاطل”، كان محاطا بجمهرة من كبار مشايخ الدين، استقبلوا كلامه بقهقهة، وبحبور واضح. كان يفترض بهذه الحادثة أن تستدعي اعتراض علمانيي الجبل، على الزعامة والمؤسسة الدينية أيضا، أليس كذلك؟ ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث. الامر عينه صحيح بالنسبة لواقعة بيصور الشهيرة، يوم قطع العضو الذكرى لمواطن سنّي جريمته أنّه أغرم بفتاة درزية، واقترن بها. ردّ فعل اليسار/العلمانوي/المجتمع مدني في الجبل يومها أن لا ردّ فعل رصد عنده. بالمقابل، ثارت النخوة العلمانوية بسرعة نصرة للفنّ والحقّ بالتعبير عندما منعت فرقة مشروع ليلى من الغناء في جبيل.

يعني باختصار: طائفيّة الاخرين طائفيّة، وطائفيتنا نحن خطوة على طريق الاشتراكيّة العلميّة. أيّ تهريج هو هذا؟

للانصاف، الامميّة الرابعة الشوفيّة ليست مصابة لوحدها بهذا النوع من الرداءة الفكرية في لبنان. فكّر بالنادي “العلماني” في الجامعة الاميركية، مثلا. في كلّ عام، عندما تحلّ ذكرى صبرا وشاتيلا، يفلت سيل الكلام اليساروي ضدّ “الفاشيين” الذين قتلوا أهلنا في المخيّمات، الخ. ثمّ تحلّ ذكرى مجزرة الدامور، فيخيّم الصمت على النادي “العلماني”، مع أنّه بالعادة شديد الثرثرة. يعني ذلك أنّ القتلى الابرياء في صبرا وشاتيلا ضحايا يستحقّون التفجّع (وهم فعلا كذلك)، أمّا قتلى الدامور فالى جهنّم وبئس المصير. قلتم علمانيّة ويسار، أليس كذلك؟

للانصاف أيضا: هذا النوع من التقيّة والنفاق ليس محصورا ب”اليسار” اللبناني. ماذا كانت “القوميّة العربيّة” في العراق سوى الاسم الحركي لهيمنة الاقليّة السنيّة العربيّة على الاكراد والشيعة معا؟ ثمّ ما هو هذا الشيء المسمّى حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا سوى الاسم الحركي للحكم الطائفي فيها؟ وأمّا أن الثروة تمركزت تاريخيّا في سوريا عند نخبها المدينية السنّية، ما كانت “اشتراكيّة” البعث سوى تعبير آخر عن كره الاقليّة للأغلبيّة، وشعور الريف الحاد بالدونيّة تجاه المدينة؟

حزب التحرير مقيت، بدون شكّ، ولكنّه على الاقلّ واضح. أحمد القصص لا يزعم شيئا هو ليس عليه. الاكيد، بالمقابل، أنّ قسما غير قليل من يساريي لبنان منتحلو صفة. كان ذلك صحيحا في ما مضى، وهو كذلك اليوم. الاكيد أيضا أن من يسكت عن رشيد جنبلاط، ويبلع لسانه عندما ينشر وليد جنبلاط سفاهته، ولا يتصدّى بصراحة للوقاحة الكامنة في تنصيب تيمور جنبلاط مالكا جديدا للجبل، يفقد حقّه بالتصدّي لرثاثة ماريو عون من منطلق علماني. بالاذن من الامميّة الرابعة ويتامى السنديانة الحمراء وحزب لينين العظيم في الجبل: “طائفيتنا” طائفيّة أيضا، لا فقط طائفيّة الآخرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى